عبد الخالق كيطان : تحت ظلال النخيل
حسن الكعبي
حسن الكعبي / شاعر وناقد عراقي
في أمسيةٍ حافلة بالإبداع والتأمل، أقامت منظمة نخيل عراقي الثقافية احتفاءً مميزاً بتجربة الشاعر العراقي المغترب عبد الخالق گيطان، بحضور نخبة من الأدباء والفنانين والمثقفين الذين أثْروا اللقاء بحواراتهم ومداخلاتهم.
أدار الجلسة الشاعر حسين المخزومي في أجواءٍ حواريةٍ معتادة، حرص من خلالها على استنطاق المحتفى به واستكشاف مسارات تجربته الشعرية والإنسانية. وقد تخللت الأمسية مساجلة شعرية قدم خلالها گيطان واحدةً من أبرز قصائده الطويلة التي وصفها الناقد سمير الخليل بأنها "ملحمية في بنائها ورؤيتها"، لما حملته من عمقٍ إنساني وشعريّ نادر.
القصيدة قُدِّمت بأداءٍ مسرحيٍّ لافت، شارك فيه إلى جانب الشاعر الفنانان القديران حكيم جاسم وحيدر منعثر، في تجربةٍ جمعت بين الشعر والمسرح والأداء الأدائي، فحوّلت النص إلى فضاء حيّ يجسّد معاناة الإنسان على هذه الأرض في ظل التحولات الوجودية والسياسية التي يشهدها العالم المعاصر.
حملت القصيدة رؤيةً إنسانيةً عميقةً عن المنفى والذاكرة والهوية، بلغةٍ مشبعةٍ بالرموز والصور التي استحضرت الوطن والأم والطفولة والبيت الأول. وفي حديثه خلال الجلسة، قال گيطان:
"لي حقيبة واحدة أريد أن أنساها وألا أتذكرها أبداً، وهي حقيبة المعاناة".
مؤكداً أن رحلته الشعرية لم تكن سهلة، بل مثقلة بالغربة والأسئلة والحنين إلى الوطن.
توقف گيطان عند أبرز محطاته الأدبية، ومنها فوزه بجائزة الشاعر عبد الوهاب البياتي للشعر العربي في سوريا، في مرحلةٍ اتسمت بالصعوبة السياسية، نظراً لموقف البياتي المعارض للنظام البائد، مما أضفى على الجائزة بُعداً رمزياً وشجاعاً.
كما تحدث عن هجرته إلى أستراليا، حيث خاض تجارب حياتية متنوعة وعمل في مهن مختلفة، لكنه ظلّ وفياً لجوهر الشعر قائلاً:
"الشعر هو الموهبة التي لا يمكن التنازل عنها تحت أي ظرف، لأنه ليس مهنة، بل هو حياة داخل الحياة."
ويرى گيطان أن المنفى لم يكن انقطاعاً عن الوطن بقدر ما كان انعطافة في وعيه الشعري؛ ففي أستراليا، كما يقول، "تعلّمت معنى التعدد"، وهناك أعاد الشعر اختراع نفسه. تحوّل المنفى عنده من جغرافيا الفقد إلى مختبر للتجريب الجمالي، فالمسافة بين الوطن والمنفى لم تعد تُقاس بالبعد المكاني، بل بقدرة النص على استحضار الذاكرة ومقاومة الوجع.
في هذا السياق، تصبح القصيدة عند گيطان وسيلةً لـمقاومة الاغتراب بالكتابة، كما في قوله الشهير:
"أعدّوا إلينا طغاتنا"،
وهي عبارة تحمل سخرية مرّة ووعياً احتجاجياً يكشف عن تمردٍ على واقعٍ مختلٍّ يكرّس العنف والاستبداد، وقد رأى بعض النقاد في هذه العبارة قلباً لأفق التوقع وتحويراً للأسطورة لتمثيل مأزق الوطن الحديث.
وقد تميزت المداخلات النقدية في الأمسية بعمقها وجرأتها، إذ أثارت أسئلة جوهرية حول علاقة الشعر بالمنفى، ودور المثقف في إعادة تعريف الوطن من خلال الكلمة. وتحوّل اللقاء إلى مساحة للتأمل في معنى الانتماء والإبداع، حيث اجتمع النخيل والحنين والمنفى في صورةٍ واحدة تُجسّد سيرة شاعرٍ حمل وطنه في اللغة، وجعل من الشعر بيتاً لا يُغادره المنفى.






ارسال التعليق