الاحتلال الرقمي .. حين تنحاز الخوارزميات ضد فلسطين
مريم شومان
مريم شومان/كاتبة فلسطينية
دخل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ، وبذلك من المفترض أن العدوان العسكري الإسرائيلي انتهى، لكن الحرب لم تتوقف؛ فقد انتقلت إلى الفضاء الرقمي، هناك بحيث تتحكم الخوارزميات فيما يُنشر وما يُخفى، فتميل إلى تعزيز الرواية الإسرائيلية وتخنق الصوت الفلسطيني تحت ذرائع "المعايير المجتمعية" و "التحريض".
والنتيجة؛ أنّ المحتوى الفلسطيني يُحذف أو يُقيّد، بينما تنتشر الدعاية الإسرائيلية بحرية، لتُرسم صورة معكوسة للواقع، حيث تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي والمنصات الاجتماعية كأدوات جديدة لتشكيل الوعي والتحكم بالرواية.
منذ سنوات، يشكو ناشطون وصحفيون ومستخدمون فلسطينيون من انحياز الخوارزميات لصالح الرواية الإسرائيلية، لكن ما حدث على مدار العامين المأساويين الأخيرين كشف حجم المشكلة بشكل غير مسبوق، فقد جرى حذف مئات آلاف المنشورات الفلسطينية أو تقييد انتشارها، بينما بقي المحتوى الإسرائيلي حتى التحريضي منه متاحًا ومتداولًا على نطاق واسع، بهذا الشكل؛ أصبحت المنصات الرقمية ميدانًا آخر للاحتلال – احتلالًا رقميًا- يُدار من خلف الشاشات.
تعمل خوارزميات وسائل التواصل بناءً على معدلات التفاعل والإعبلاغ، لكنها ليست محايدة كما يُقال، فحين تُستخدم حملات منظمة للإبلاغ عن الصفحات الفلسطينية، تتلقاها الخوارزمية كـ"مؤشرات خطر"، فتقوم بحجب المحتوى تلقائيا، أما المحتوى المدعوم من جهات إسرائيلية أو لوبيات داعمة لها فيحظى بانتشار أوسع ويتم تقديمه في الواجهة باعتباره "الأكثر تفاعلا"، وهكذا تُصاغ الرواية العامة بذكاء خفي.
النتيجة المباشرة كانت طمسا للسردية الفلسطينية الإنسانية، خصوصا في الضفة الغربية؛ فبينما تركزت التغطية الإعلامية والرقمية على ما يحدث في قطاع غزة، تمّ تجاهل تصاعد الانتهاكات اليومية في أنحاء الضفة الغربية من اعتقالات جماعية وتوسع الاستيطان، ونصب البوابات الحديدية على مداخل المدن والبلدات وتضييق الخناق على المواطن الفلسطيني، مرورا بسياسات العقاب الجماعي وغيرها من الانتهاكات، هذه الخوارزميات ساهمت من حيث لا تدري في جعل الضفة الغربية "المنطقة المنسيّة" رقميا، رغم أنّ معاناتها لا تقل قسوة.
لكن هذه السيطرة ليست مطلقة؛ فخلال الأشهر الماضية برزت موجة عالمية من التضامن الشعبي تجاوزت رقابة المنصات. ملايين المستخدمين أعادوا نشر المحتوى الفلسطيني بطرق مبتكرة، عبر صور وفيديوهات وقصص إنسانية يصعب تصنيفها أو حذفها، بهذا الوعي الرقمي الجديد بدأ الناس يدركون أن الحرب ليست فقط على الأرض، بل أيضا على الحقيقة نفسها.
إن مواجهة "الاحتلال الرقمي" لا تكون بالشكاوى فقط، بل بمقاومة رقمية منظمة؛ مثل توثيق الانتهاكات، دعم المحتوى الفلسطيني بالتفاعل المستمر، والمطالبة بشفافية خوارزمية من شركات التكنولوجيا الكبرى، فحرية التعبير ليست امتيازًا تمنحه المنصات، بل حق يُنتزع بالوعي والإصرار والاستمرارية.
وفي زمن تُحاصر فيه الكلمة؛ يصبح الدفاع عن الحقيقة فعل نضالي لا يقل أهمية عن أي نضال ميداني، إن معركة الفلسطيني اليوم لم تعد فقط على أرضه، بل على صوته وصورته وذاكرته الرقمية؛ فكا منشور يُحذف وكل قصة تُخفى هو محاولة لمحو الوجود الفلسطيني من الوعي العالمي.
لكن ما لا تدركه الخوارزميات هو أن الوعي لا يُخزّن في قاعدة بيانات، ولا يُقاس بعدد الإعجابات، بل يسكن في ضمير الشعوب التي لم تعد تنخدع بالروايات المعلّبة. لذلك، ما دام هناك من يكتب وينشر ويشارك، ستبقى فلسطين حاضرة مهما حاولت الخوارزميات إسكاتها.

ارسال التعليق