جواهريون ومنظمة نخيل


حسن الكعبي / ناقد عراقي

يُعدّ مهرجان "جواهريون" ظاهرة ثقافية تتجاوز حدود المحلية لتغدو حدثًا عربيًا وعالميًا بامتياز، إذ يسعى المهرجان إلى ترسيخ حضورٍ نوعيّ للثقافة العراقية في فضاءات أوسع،تحمل هوية عراقية وانفتاحًا إنسانيا عبر اكتشاف المواهب الشبابية ورعايتها ، ومن ثم تصديرها إلى المشهد الثقافي العربي والدولي بما يعكس تنوّع الإبداع العراقي وعمق تجاربه.
ويأتي هذا المنجز في إطار التعاون البنّاء بين منظمة نخيل الثقافية واتحاد الأدباء والكتّاب في العراق، ووزارة الثقافة والسياحة والاثار
ان المهرجان  بحسب اراء المثقفين الذين حضروره - في سياق ما رصدته الصحفية نوارة احمد ضمن تغطيتها للمشهد الختامي في المهرجان – يؤشر تحوّلا في بنية المشهد الثقافي العراقي؛ فالأصوات الجديدة لم تعد تبحث عن اعترافٍ أو تبنٍّ من مؤسسات تقليدية، بل تصنع حضورها عبر التجربة والاختلاف، مؤمنةً بأن الشعر فعل وجودٍ لا وظيفة جمالية فحسب. ومن هنا يكتسب المهرجان دلالته بوصفه حراكًا ثقافيًا يعيد تعريف مركزية بغداد الأدبية في محيطها العربي، ويمنح الشعراء الشباب أفقًا للتفاعل والتبادل مع التجارب العربية الأخرى.
إن "جواهريون"  في دورته السادسة واستنادا الى هذه الاراء بدا مشروعًا مفتوحًا على المستقبل، يوازن بين الذاكرة والابتكار، وبين الأصالة والانفتاح، مؤكدًا أن الكلمة ما زالت قادرة على أن تكون حدثًا في الوعي لا في التداول فحسب. ومن خلال دعم منظمة نخيل الثقافية واتحاد الأدباء والكتّاب في العراق، يواصل المهرجان رسالته في اكتشاف الطاقات الشعرية الجديدة وتقديمها إلى المشهد العربي والعالمي، ليصبح منصة عراقية المنشأ، إنسانية الأفق، تذكّرنا بأن الثقافة، مهما ضاقت بها المسافات، قادرة دائمًا على تجديد معناها وإشعال جذوة الحياة في الوعي الجمعي. 
لقد جسّد "جواهريون السادس" هذا العام حالة من التفاعل الثقافي الحقيقي، حيث اجتمع الشعر والموسيقى والفكر في فضاءٍ واحد يعبّر عن هوية العراق المتجددة وإبداعه المتنوع. فالمهرجان يقدّم القصيدة بوصفها أفقًا مفتوحًا للحوار والتنوير، ومساحةً للتأمل في المعنى، وتجسيدًا لفكرة أن الثقافة يمكن أن تكون جسرًا بين الجمال والانتماء.
ويمثل هذا المهرجان مسعى جادًا ومهما من قبل الاتحاد العام للادباء والكتاب ووزارة الثقافة والسياحة والاثار في سياقها الرسمي وبالتعاون مع منظمة نخيل عراقي الثقافية بحضورها المستقل.
الا انه لا يمكن قراءة "جواهريون" بمعزل عن الدور الريادي لمنظمة نخيل الثقافية، التي أثبتت حضورها الفاعل في دعم الحراك الثقافي والفني، من خلال تعاونها المثمر مع اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق، وسعيها المتواصل إلى خلق فضاءات تفاعلية تجمع بين الأجيال الأدبية والفنية المختلفة كمنظومة فكرية مستقلة تُعيد تعريف وظيفة العمل الثقافي في العراق. فالمهرجان ليس حدثًا عابرًا، بل امتدادٌ لمشروع المنظمة في بناء فضاءٍ حرّ للإبداع، يمنح الأصوات الجديدة فرصة الظهور والحوار والتأثير. لقد منحت "نخيل" الثقافة العراقية وجهًا مدنيًا حديثًا، يقوم على الانفتاح والتنوّع والتفاعل الإنساني، مؤكدة أن الثقافة ليست نشاطًا احتفاليًا، بل رؤية مستمرة لبناء الوعي الجماعي.
وحين تتعاون "نخيل" مع اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق ووزارة الثقافة، فإنها لا تكرّر الدور المؤسسي، بل تضيف إليه بعدًا إنسانيًا وجماليًا يُعيد ربط الثقافة بالحياة اليومية. هذا التلاقي منح جواهريون بعده العربي والعالمي، إذ غدا المهرجان جسرًا للتبادل الثقافي ومختبرًا مفتوحًا لتجريب اللغة والرؤية والوعي.
إن ما تقوم به منظمة نخيل ليس مجرد تنظيم فعالية أو إدارة مهرجان؛ بل هو تأسيس لوعي ثقافي جديد يؤمن بأن الشعر والفن والفكر أدوات مقاومةٍ ناعمة ضد التراجع والجمود، وأن بناء الإنسان هو جوهر أي مشروع ثقافي حقيقي. ومن هنا يمكن القول إن جواهريون ليس احتفالًا بالشعر فقط، بل إعلانٌ مستمرّ لقدرة الثقافة على صناعة الأمل وتجديد الوعي الجمعي، بفضل مؤسساتٍ مستقلة مثل "نخيل" جعلت من العمل الثقافي رسالةً تتجاوز المحلية نحو الفضاء الإنساني الرحب.
إنّ النخلة والشعر يلتقيان في الجوهر، بوصفهما رمزين للخصب والامتداد والهوية. فكما تمتدّ جذور النخلة في عمق الأرض لتستمدّ قوتها من الطين والماء، كذلك تمتدّ القصيدة في عمق الوعي لتستمدّ معناها من الوجع والأمل. النخلة لا تنحني للعواصف، والشعر لا يخضع للخراب؛ كلاهما يقف شامخًا في مواجهة القحط، حارسًا للذاكرة ومؤكدًا على أن الحياة، مهما أثقلها الخراب، تظلّ قادرة على الإنبات من جديد.
من هنا تبدو منظمة نخيل عراقي الثقافية تجسيدًا لهذه الثنائية الخلّاقة، إذ تُعيد للشعر وظيفته الأولى: أن يكون شجرة وعيٍ تظلل الإنسان وتستدرّ منه المعنى. وفي ضوء ذلك، يصبح مهرجان جواهريون أكثر من تظاهرة فنية، إنه احتفاء بديمومة الثقافة العراقية التي تتجدّد كما تتجدّد النخلة في عطائها، وكما يتجدّد الشعر في انفتاحه على الإنسان والكون.
ومع اختتام الفعاليات، أكّد المشاركون على أهمية استمرار هذه التظاهرات الأدبية التي تجمع بين الجمال الشعري والهوية الوطنية، لتبقى النخلة والجواهري عنوانين خالدين للإبداع العراقي الأصيل، ودليلًا على أن الثقافة في العراق، مهما تعثّرت، لا تنطفئ؛ لأنها تحمل في جوهرها قوة البقاء وتجدد المعنى في الذاكرة والوجدان.
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق