مهيمنات الاغتراب في رواية ( تلك الرائحة) لصنع الله ابراهيم
حسن الكعبي
حسن الكعبي / شاعر وناقد عراقي
يتحول الاغتراب وما يستحثه من وحدة الى حالة من الادمان كما يشير – كارل يونغ – وذلك يرجع بحسبه الى ما يوفره هذا الكون من انسجام مع الذات ، وهو ايضا يتحول الى حالة من الادمان في سياق عدم الانسجام لان الشعور بالاغتراب والوحدة يظل في حالة مطاردة وملازمة للذات تأني من نوافذ الماضي وتقف على عتبات الحاضر لتسكن بكامل عدتها بيت الذات.
هذا الشطر من عدم الانسجام والشعور بالوحدة كحالة من الادمان تنطبق على مجمل اعمال الروائي الراحل صنع الله ابراهيم ، كروايات ( اللجنة , شرف ، ذات , نجمة اوغسطين ) وغيرها من الاعمال التي تجري ضمن هذا المحور ، لكن روايته القصيرة تلك الرائحة هي اكثر اعماله السردية ابرازا لذلك الشغف بتناول حالة الاغتراب بتجلياته النفسية والاجتماعية والثقافية ، باعتبارها في مجمل الاستبصارات النقدية تمثل السيرة الذاتية للروائي الراحل .
تفتتح رواية تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم فضاءها السردي بحالة اغتراب شديدة، ترافق البطل منذ اللحظة الأولى لخروجه من السجن، وتمتد عبر الحوادث والأماكن والذكريات التي تعبرها الرواية، حتى تنتهي بلحظة صادمة تتجمد فيها مشاعر الإنسان وتتعطل استجاباته تجاه الحياة. فالبطل، بعد الإفراج عنه، يُفرض عليه نظام الإقامة الجبرية والمراقبة المستمرة، ما يجعله سجينًا في فضاء مفتوح، يفتقر إلى أي شعور بالحرية الحقيقية.
وخلال محاولاته لاستعادة حياته، يتنقل بين زيارات إلى الأصدقاء والأقارب، لكنه لا يجد سوى الرفض أو البرود، وكأن الروابط الإنسانية قد انقطعت تمامًا. وتبلغ ذروة الاغتراب عند زيارته لبيت أمه، ليكتشف أنها ماتت قبل أسبوعين من خروجه ، ويتعامل مع الخبر ببرود لافت، يخلو من أي انفجار عاطفي يقتضيه ذلك الموقف. هذا البرود لا يعكس نقصًا في المشاعر عند البطل بقدر ما هو انعكاس لفقدان القدرة على الإحساس،في سياق الدلالة على ان حالة الاغتراب ، بلغت حالة من التغول المفضي الى قطع الصلات بينه وبين ذاته والآخرين.
يعمق الروائي الشعور بالاغتراب عبر السرد بضمير المتكلم، ليجعل القارئ داخل عزلة البطل مباشرة. وبأسلوبها القائم على مقاطع قصيرة، ولغة مقتضبة، وسرد يومي أشبه بالمذكرات، يخلو من الحبكة التقليدية، فانه يتقصد ان يعكس الركود والفراغ المهيمن على الواقع, والشخصيات في الرواية الرئيسية او الشخصيات الأخرى تظهر هامشية، كأنها ظلال أو أسماء بلا ملامح، حيث يوغل الروائي في تشبيح شخوصه وجعل روايته سياقا حاضنا للمقولات التي يسعى الى إفشائها ضمن مساحات السرد ، بدءا من بطل العمل الذي يجرده من اسمه فهو بلا اسم ، مجرد شخصية مثقلة بماض ضاغط لا يسمح له بسيرورة مستقبلية تسهم في يناء الشخصية وتطورها داخل الحدث، بل ان الروائي يعمق هذا التشبيح كمعادل لهذا الاغتراب الخانق.
المكان في الرواية يأخذ حصته من الاغتراب ايضا فالقاهرة في الستينيات لا تعكس عنفوان الحياة وجماليات ليالي القاهرة المعهودة بقدر ما تعكس الاستبداد السياسي وغياب الحياة وانهيار القيم الانسانية فالمكان يبدو خانقًا ومتسخًا، مدينة اشباح يفقد البطل ألفته بها.
ان الاغتراب الوجودي، النابع من شعور البطل بالانفصال عن ذاته، يأخذ بعدا سياسيا، متصل بواقع ما بعد السجن في ظل بيروقراطية خانقة وتقييد للحريات. أثر التجربة الاعتقالية حيث الإحساس الدائم بالمراقبة، والخوف من الانخراط، والانجراف في روتين باهت. والروائح، التي تتكرر في النص، ليست مجرد تفصيل حسي، بل هي رموز للتعفن والفساد الاجتماعي، ولذكريات مشبعة بالفقد.
وبذلك فان عنوان الرواية "تلك الرائحة" يختزل التجربة الشعورية للنص في صورة حسية مشبعة بالدلالة. فالرائحة، في العادة، ترتبط بالذاكرة والانطباع المباشر، لكنها هنا تكتسب معنى أكثر قتامة, فهي رائحة الفساد والركود والذكريات التي فقدت بهجتها. فكلمة "تلك" تحمل بعدًا إشارياً زمنياً ونفسياً؛ يشير إلى شيء بعيد، ماضٍ، لكنه لا يزال حاضرًا في الوعي مثل أثر لا يمكن محوه.
ليتحول العنوان إلى استعارة للاغتراب ذاته فالرائحة لا يمكن التخلص منها، وتلتصق بالذات حتى في لحظات الصمت أو محاولة النسيان. إنها أثر السجن في الروح، وأثر الانفصال عن العالم، وأثر لمدينة لم تعد كما كانت. فكما أن الرائحة تملأ الحواس رغم غياب مصدرها عن العين، فالاغتراب يملأ روح البطل رغم محاولاته العودة إلى الحياة ومحاولة التصالح معها.
تلك الرائحة في هذا السياق ليست رواية عن أحداث بقدر ما هي عن غياب الحدث، عن الحياة التي افرغت من المعنى بعد تجربة الاعتقال. وبأسلوبها المقتصد ولغتها المحايدة، تصوغ نصًا يعكس الفراغ النفسي والاغتراب الوجودي.


ارسال التعليق