جبار محيبس: شهادة مؤجّلة

حسن الكعبي

يكتب جبار محيبس مسرحه كما يكتب الشاعر قصيدته، لا بوصفه فعلاً أدائياً، بل كفعل وعيٍ وتأملٍ في معنى الوجود الإنساني. فهو لا ينظر إلى الخشبة باعتبارها فضاءً للعرض فحسب، بل بوصفها مختبراً فلسفياً يختبر فيه الإنسان قدرته على المقاومة والجمال في آنٍ واحد.

 

حسن الكعبي / كاتب عراقي

 

 

يكتب جبار محيبس مسرحه كما يكتب الشاعر قصيدته، لا بوصفه فعلاً أدائياً، بل كفعل وعيٍ وتأملٍ في معنى الوجود الإنساني. فهو لا ينظر إلى الخشبة باعتبارها فضاءً للعرض فحسب، بل بوصفها مختبراً فلسفياً يختبر فيه الإنسان قدرته على المقاومة والجمال في آنٍ واحد.
في هذا السياق تستقي عروضه الاحتجاجية ملامحها الفكرية من جذورٍ فلسفية ضاربة في عمق التاريخ، تبدأ من أرسطو وسوفوكليس في أنطيغونيا، حيث يتجسّد التمرّد على السلطة الجائرة بوصفه موقفاً أخلاقياً لا خياراً سياسياً. إنّ هذا الامتداد الفلسفي يمنح مسرح محيبس بعده الإنساني الرفيع، إذ لا يتوقف عند حدود الصراع بين الفرد والسلطة، بل يذهب إلى مساءلة معنى العدالة والحرية والكرامة في عالمٍ تزداد فيه العبودية بوجوهٍ جديدة.
إنّ العرض الاحتجاجي في تجربة محيبس لا يُراد له أن يكون هتافاً في الشارع، بل سؤالاً عميقاً يتسلل إلى الوعي الجمعي، ويوقظ في المتلقي حسّ النقد والرفض. فالتجريب عنده ليس ترفاً فنياً، بل موقف من العالم، وسعيٌ لتحطيم القوالب الجامدة في المسرح والفكر معاً. ولهذا يلتقي مشروعه مع مسرح العبث في بحثه عن الإنسان المقهور، ومع مسرح القسوة عند أرتو في توتّره الداخلي، ومع مسرح المقاومة الذي يرفض الهيمنة البورجوازية.
إنّ ما يميز جبار محيبس حقاً هو ثقافته العالية واتساع أفقه الفلسفي، تلك التي مكنته من تحويل المسرح إلى مرآة للفكر والشعر في آنٍ واحد. فهو يكتب المسرحية بروح الشاعر، ويكتب القصيدة بذهنية المسرحي، في تفاعلٍ خلاقٍ يجعل من النص فضاءً للحوار بين الجمال والفكرة. ومن هنا جاء توصيفه بأنه "ظاهرة أدبية وفنية لافتة"، لأنه استطاع أن يخلق من التجربة المسرحية مشروعاً معرفياً يربط الفن بالحياة والوعي بالتحرر.
ولعلّ احتفاء منظمة نخيل عراقي الثقافية به  لم يكن سوى ردّ جميل لمبدعٍ عاش في الظلّ طويلاً. ففي الامسية التي كرست له، واجتمع فيها الشعراء والمثقفون والفنانون ليقولوا كلمة شكرٍ لرجلٍ ظلّ وفيّاً للحقيقة والجمال في زمن الخوف. وقد وصفه الشاعر عقيل عبد الحسن بـ"الشهيد المؤجل" أو "الشهيد الحيّ"، وفي سياق هذا التوصيف تكمن الإشارةٍ إلى عناده الجمالي وتمرده الدائم على القبح والاستبداد وتختزل موقفه النضالي ضد سلطة الاستبداد .
افتُتحت الأمسية بكلمة الشاعر عباس عبد الحسن الذي وصفه بالظاهرة الشعرية التي أجمع عليها الجميع، تلاه رئيس المنظمة د. مجاهد أبو الهيل الذي أكد أن محيبس من أوائل الشعراء الذين شتموا الحرب وواجهوا خرابها بالقصيدة والمسرح، وانه يستحق اكثر من غيره ان يجوس السجادة الحمراء , ثم ألقى الشاعر عارف الساعدي كلمته التي شبّه فيها محيبس بيوسف الصائغ في تعدد اشتغالاته وصدق تجربته.
أما محيبس نفسه فقد ردّ على هذا الحبّ بقراءة قصيدةٍ مؤثرة رثى فيها الشاعر رحيم المالكي، ثم عاد إلى ذاكرته الأولى في مدينة الصدر، حيث بدأ الحلم بالشعر والمسرح معاً، مؤكداً أنّ "الشعر خلاصة الفنون"، وأنه لم يفارقه منذ الطفولة. واستعاد تفاصيل أول عملٍ مونودرامي قدّمه في كلية الفنون الجميلة، وكيف منعت السلطات بعض أعماله لجرأتها، قائلاً إنّ مسرح الشارع هو مسرح الحاجة، لأنه يذهب إلى الناس بدل أن ينتظرهم في القاعات.
توالت بعدها القراءات والشهادات من شعراء وفنانين، منهم حمزة الحلفي، حمدان طاهر المالكي، محمد هاشم، عمر السراي، رياض الركابي، أدهم عادل، ومحمد غاندي، الذين تحدثوا عن تجربته المتفرّدة، وعن ذلك المزج الجميل بين الفكر والعاطفة، بين الاحتجاج والجمال.

وفي ختام الأمسية، قرأ جبار محيبس عدداً من قصائده التي تفاعل معها الحضور بالتصفيق والدهشة، وكأنهم يشهدون لحظة مصالحة بين الشعر والمسرح، بين الفكرة والحلم.
من هذا المنطلق فان الاحتفاء بمحيبس ينزاح عن كونه مجرد فعالية ثقافية، الى كونه اعترافاً مؤجلاً بعبقرية رجلٍ حوّل الفن إلى رسالة، والوعي إلى مسرح، والشعر إلى احتجاجٍ ضد القبح والظلم ومهيمنات الاستبداد.

 

 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق