الشرعية والسلطة في فكر هابرماس: لماذا يعتبر فيلسوف ألمانيا الأشهر أن الديمقراطية الحديثة في خطر؟

فادي جميل سيدو

في عصر تشهد فيه الديمقراطيات العريقة تحديات وجودية، وتواجه المؤسسات السياسية أزمات ثقة متزايدة، تبرز أفكار الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس كمنارة فكرية تضيء طريق الفهم لما يحدث حولنا. هذا المفكر، الذي يُعتبر من أبرز فلاسفة القرن العشرين والحادي والعشرين، قدم تحليلاً عميقاً ومعقداً لمفاهيم الشرعية والسلطة في المجتمعات الديمقراطية، محذراً من تآكل الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية الحديثة.

فادي جميل سيدو /  باحث وكاتب سوري

 

في عصر تشهد فيه الديمقراطيات العريقة تحديات وجودية، وتواجه المؤسسات السياسية أزمات ثقة متزايدة، تبرز أفكار الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس كمنارة فكرية تضيء طريق الفهم لما يحدث حولنا. هذا المفكر، الذي يُعتبر من أبرز فلاسفة القرن العشرين والحادي والعشرين، قدم تحليلاً عميقاً ومعقداً لمفاهيم الشرعية والسلطة في المجتمعات الديمقراطية، محذراً من تآكل الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية الحديثة.
إن تحليل كيفية تناول هابرماس لمفاهيم الشرعية والسلطة في المجتمعات الديمقراطية، وتأثير هذه الأفكار على الفلسفة السياسية، يكشف لنا عن رؤية متكاملة لا تقتصر على الوصف والتشخيص، بل تمتد إلى اقتراح حلول عملية لإنقاذ الديمقراطية من أزمتها المعاصرة. في هذا المقال، سنستكشف الأبعاد المختلفة لفكر هابرماس السياسي، ونحلل تحذيراته من الأخطار التي تهدد النظم الديمقراطية اليوم.

الأسس الفلسفية لمفهوم الشرعية عند هابرماس:
يضع هابرماس مفهوم الشرعية في قلب نظريته السياسية، لكنه لا يتعامل معها كمفهوم بسيط أو أحادي البعد. بل يبني فهمه للشرعية على أساس نظريته الشهيرة في "الفعل التواصلي"، التي تؤكد على أن الشرعية السياسية الحقيقية لا يمكن أن تنبع إلا من خلال عملية تواصلية حقيقية بين أفراد المجتمع.
في نظر هابرماس، تتجاوز الشرعية الديمقراطية مجرد الموافقة السلبية أو القبول القسري. إنها تتطلب مشاركة فعالة ومدروسة من قبل المواطنين في العملية السياسية. هذه المشاركة لا تقتصر على الانتخابات الدورية، بل تشمل المشاركة في النقاش العام، والحوار المجتمعي، وصياغة الرأي العام بطريقة عقلانية ومدروسة.

النقاش العقلاني كأساس للشرعية:
يرى هابرماس أن الشرعية الديمقراطية تستمد قوتها من جودة النقاش العقلاني الذي يسبق اتخاذ القرارات السياسية. هذا النقاش يجب أن يتميز بعدة خصائص أساسية:
1.الانفتاح على جميع وجهات النظر المختلفة.
2.الاستناد إلى الحجج العقلانية وليس العواطف المجردة.
3.إمكانية وصول جميع المواطنين للمشاركة في النقاش.
4.الشفافية في تبادل المعلومات والآراء.
5.الاستعداد لتغيير المواقف بناءً على الحجج المقنعة.
هذه الشروط تشكل ما يسميه هابرماس "الوضع الخطابي المثالي"، والذي يمثل المعيار الذي يجب أن نسعى إليه في الممارسة الديمقراطية، حتى لو كان من الصعب تحقيقه بالكامل في الواقع.

السلطة بين الهيمنة والتواصل:
إن تحليل كيفية تناول هابرماس لمفاهيم الشرعية والسلطة في المجتمعات الديمقراطية، وتأثير هذه الأفكار على الفلسفة السياسية، يكشف عن تمييز دقيق بين نوعين مختلفين من السلطة. فهابرماس يفرق بين "السلطة الإدارية" و"السلطة التواصلية"، وهو تمييز محوري في فهم رؤيته للديمقراطية.
السلطة الإدارية هي تلك التي تمارسها المؤسسات الرسمية والبيروقراطية في الدولة. هذه السلطة ضرورية لتسيير شؤون المجتمع وتنفيذ القرارات، لكنها تحمل في طياتها خطر التحول إلى هيمنة إذا لم تخضع للرقابة والمساءلة المناسبة.
أما السلطة التواصلية، فهي تلك التي تنبع من النقاش العام والحوار المجتمعي. هذه السلطة لا تمارس من خلال القوة أو الإكراه، بل من خلال قوة الحجة والإقناع. وهي التي يجب أن توجه وترشد السلطة الإدارية في ممارستها.

التوازن المطلوب بين أشكال السلطة:
يؤكد هابرماس على ضرورة الحفاظ على توازن دقيق بين هذين النوعين من السلطة. فالسلطة الإدارية المفرطة تؤدي إلى التكنوقراطية والاستبداد البيروقراطي، بينما السلطة التواصلية المفرطة قد تؤدي إلى الفوضى وعدم القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة.
الديمقراطية الصحيحة، في نظر هابرماس، هي التي تحقق هذا التوازن بحيث تكون السلطة التواصلية هي المرشدة والموجهة، بينما تكون السلطة الإدارية هي المنفذة والمطبقة. هذا التوازن يضمن أن تظل السلطة في خدمة المجتمع وليس العكس.

أزمة الديمقراطية المعاصرة في نظر هابرماس:
لا يكتفي هابرماس بتقديم تحليل نظري لمفاهيم الشرعية والسلطة، بل يطبق هذا التحليل على الواقع المعاصر ليشخص الأزمات التي تواجهها الديمقراطيات اليوم. في نظره، تواجه الديمقراطية الحديثة تهديدات خطيرة تنبع من عدة مصادر متداخلة.
أولاً، هناك تآكل المجال العام التقليدي الذي كان بمثابة الفضاء الطبيعي للنقاش السياسي العقلاني. وسائل الإعلام الحديثة، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، رغم أنها وسعت من إمكانيات التواصل، إلا أنها في الوقت نفسه جزأت المجال العام إلى فقاعات معلوماتية منعزلة، حيث يتلقى كل فرد المعلومات التي تؤكد معتقداته المسبقة فقط.

تأثير العولمة على الديمقراطية الوطنية:
ثانياً، تواجه الديمقراطية تحدياً جوهرياً من العولمة الاقتصادية. فالقرارات الاقتصادية الكبرى التي تؤثر على حياة المواطنين لم تعد تتخذ على المستوى الوطني، بل على مستوى الأسواق العالمية والشركات متعددة الجنسيات. هذا يعني أن الديمقراطية الوطنية فقدت جزءاً كبيراً من قدرتها على التحكم في مصير مواطنيها.
هابرماس يرى في هذا التطور تهديداً خطيراً لمبدأ السيادة الشعبية، الذي يشكل أحد الأسس المحورية للديمقراطية. إذا كانت القرارات المهمة تتخذ خارج نطاق المؤسسات الديمقراطية، فما فائدة هذه المؤسسات؟ وكيف يمكن للمواطنين أن يؤثروا على مسار حياتهم من خلال المشاركة السياسية؟

صعود الشعبوية كعرض لأزمة أعمق:
ثالثاً، يحلل هابرماس صعود الحركات الشعبوية في العالم كعرض لأزمة أعمق في الديمقراطية. الشعبوية، في نظره، تمثل رد فعل على فشل النخب السياسية التقليدية في الاستجابة لمخاوف وتطلعات المواطنين العاديين. لكن الحلول التي تقدمها الشعبوية مبسطة ومضللة، وتقوم على استغلال المشاعر والعواطف بدلاً من الحوار العقلاني.
الخطورة في الشعبوية أنها تدعي تمثيل "إرادة الشعب الحقيقية"، وبالتالي ترفض أي نقد أو معارضة باعتبارها خيانة لهذه الإرادة. هذا يقوض أحد المبادئ الأساسية للديمقراطية، وهو مبدأ التعددية وقبول الاختلاف.

الحلول المقترحة: نحو ديمقراطية تداولية:
رغم التشخيص القاتم الذي يقدمه هابرماس لحالة الديمقراطية المعاصرة، إلا أنه لا يستسلم لليأس. بل يقترح حلولاً عملية لإنقاذ الديمقراطية وتجديدها. هذه الحلول تقوم على تطوير ما يسميه "الديمقراطية التداولية"، التي تركز على تحسين جودة النقاش العام والمشاركة المواطنية.

إصلاح المجال العام:
أولى أولويات هابرماس هي إصلاح المجال العام ليصبح أكثر شمولية وعقلانية. هذا يتطلب:
1.تنظيم وسائل الإعلام بحيث تلتزم بمعايير مهنية صارمة في نقل المعلومات.
2.محاربة انتشار المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة.
3.تشجيع التنوع في وسائل الإعلام لضمان تعدد وجهات النظر.
4.تعزيز التربية الإعلامية للمواطنين ليكونوا قادرين على التمييز بين المصادر الموثوقة وغير الموثوقة.

تطوير المؤسسات الديمقراطية؛
يدعو هابرماس أيضاً إلى تطوير المؤسسات الديمقراطية لتصبح أكثر استجابة لحاجات المواطنين وأكثر شفافية في عملها. هذا يشمل:
1.تطوير آليات جديدة للمشاركة المواطنية تتجاوز الانتخابات التقليدية.
2.إنشاء منتديات للحوار بين المواطنين والمسؤولين السياسيين.
3.تعزيز دور المجتمع المدني في مراقبة العمل الحكومي.
4.تطوير آليات لضمان المساءلة والشفافية في اتخاذ القرارات.

التأثير على الفلسفة السياسية المعاصرة:
إن تحليل كيفية تناول هابرماس لمفاهيم الشرعية والسلطة في المجتمعات الديمقراطية، وتأثير هذه الأفكار على الفلسفة السياسية، يكشف عن تأثير واسع ومتنوع على المفكرين والأكاديميين حول العالم. أفكار هابرماس لم تبق حبيسة الأكاديمية، بل امتدت لتؤثر على السياسيين والناشطين وصانعي السياسات.
في أوروبا، تأثرت العديد من الأحزاب السياسية بأفكار هابرماس حول الديمقراطية التداولية، وحاولت تطبيق بعض مبادئه في برامجها وممارساتها. كما أثرت أفكاره على تطوير مؤسسات الاتحاد الأوروبي، خاصة في ما يتعلق بمحاولات تعزيز المشاركة المواطنية في صنع القرار الأوروبي.

تطبيقات عملية في السياسة:
في أمريكا اللاتينية، استخدمت بعض الحكومات أفكار هابرماس في تطوير تجارب الديمقراطية التشاركية، مثل الميزانيات التشاركية التي تسمح للمواطنين بالمشاركة المباشرة في تحديد أولويات الإنفاق العام.
في آسيا وأفريقيا، تأثر العديد من المفكرين والناشطين بأفكار هابرماس في النضال من أجل الديمقراطية والحكم الرشيد. أفكاره حول أهمية المجتمع المدني والنقاش العام ألهمت العديد من الحركات الاجتماعية والسياسية.

التحديات والانتقادات:
رغم التأثير الواسع لأفكار هابرماس، إلا أنها واجهت أيضاً انتقادات جدية من مفكرين آخرين. بعض النقاد يرون أن رؤيته للديمقراطية التداولية مثالية أكثر من اللازم، وأنها لا تأخذ في الاعتبار بشكل كافٍ الواقع السياسي المعقد والصراعات القائمة في المجتمع.
آخرون يرون أن تركيزه على العقلانية والحوار قد يهمش أصوات الفئات المهمشة في المجتمع، التي قد لا تملك الأدوات أو الفرص للمشاركة في النقاش العقلاني المطلوب. كما أن بعض النقاد يشككون في إمكانية تطبيق أفكاره في مجتمعات تعاني من صراعات عميقة أو انقسامات حادة.
هذه الانتقادات لا تقلل من أهمية إسهامات هابرماس، لكنها تذكرنا بضرورة التعامل مع أفكاره بروح نقدية وإبداعية، وتطويرها بما يتناسب مع السياقات المختلفة والتحديات المتغيرة.

الخلاصة: دروس لمستقبل الديمقراطية:
في نهاية هذا الاستكشاف لفكر هابرماس السياسي، يمكننا أن نستخلص دروساً مهمة لمستقبل الديمقراطية في عالمنا المعاصر. أولاً، أن الديمقراطية ليست مجرد نظام انتخابي، بل هي ثقافة وممارسة يومية تتطلب مشاركة فعالة من جميع أفراد المجتمع.
ثانياً، أن جودة النقاش العام والحوار المجتمعي هي العامل الحاسم في نجاح أو فشل الديمقراطية. بدون نقاش عقلاني ومفتوح، تتحول الديمقراطية إلى مجرد لعبة أرقام وشعارات.
ثالثاً، أن التحديات التي تواجهها الديمقراطية اليوم - من العولمة إلى وسائل التواصل الاجتماعي إلى صعود الشعبوية - تتطلب حلولاً إبداعية ومبتكرة لا تقتصر على الأساليب التقليدية.
"الديمقراطية الحقيقية لا تولد من فراغ، بل تتطلب عملاً دؤوباً ومشاركة فعالة من جميع أفراد المجتمع"
إن إسهامات هابرماس في فهم مفاهيم الشرعية والسلطة تقدم لنا خارطة طريق للتفكير في مستقبل الديمقراطية. هذه الخارطة لا تقدم حلولاً جاهزة، لكنها تفتح أمامنا آفاقاً جديدة للتفكير والعمل من أجل ديمقراطية أكثر شمولية وعدالة وفعالية.
التحدي أمامنا اليوم هو كيفية ترجمة هذه الأفكار النظرية إلى ممارسات عملية تساهم في تجديد الديمقراطية وحمايتها من التهديدات المختلفة. هذا عمل لا يقتصر على المفكرين والأكاديميين، بل يحتاج إلى جهود جميع أفراد المجتمع، من السياسيين إلى الصحفيين إلى المواطنين العاديين. فقط من خلال هذا الجهد الجماعي يمكننا أن نحقق الحلم الديمقراطي الذي يتطلع إليه هابرماس وغيره من المفكرين المخلصين لقيم العدالة والحرية.
 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق