معارض الكتب: ثقافة للبيع!
داود السلمان
داود السلمان
باحث وكاتب | عراقي
تُثار بين الحين والآخر ضجة حول معارض الكتب، ويتساءل البعض عن جدوى هذه الفعاليات في ظل انخفاض معدلات شراء الكتب، ويُلقى اللوم - غالبًا - على القرّاء، وكأنهم وحدهم المسؤولون عن هذا التراجع، متناسين أن الأسباب أعمق من مجرد :قلة اهتمام" أو "ضعف وعي"، بل ترتبط مباشرة بالواقع الاقتصادي والثقافي الذي يعيشه الناس، لاسيما في العراق وتحديدًا أولئك الذين يشكّلون نواة المجتمع المثقف، الفئة التي ما تزال تؤمن بالكتاب الورقي، وتدافع عنه، وتحرص على حضوره في زمن التحول الرقمي والتشتت المعرفي.
العيب، وبكل صراحة، ليس في القارئ، وليس في "المثقف" الذي يبحث عن الكتاب ويتتبّع العناوين الجديدة، لكنه يصطدم بجدار الأسعار المرتفعة التي تكاد تحوّل الكتاب إلى سلعة كمالية لا يقدر عليها إلا فئة قليلة، فحين يكون أقل كتاب في معرض الكتاب بسعر عشرة آلاف دينار، وقد يصل بعضه إلى ثلاثين ألفًا أو أكثر، فإن الحديث عن تشجيع القراءة يصبح مجرد شعارات لا تجد ما يعضدها على أرض الواقع. في المقابل، يجد القارئ نفسه مضطرًا للذهاب إلى أماكن مثل شارع المتنبي أو المكتبات المستعملة، حيث تتوفر نفس هذه العناوين، أو ما يقاربها من حيث المحتوى أو القيمة الفكرية، بأسعار معقولة جدًا، بل في بعض الأحيان يمكنه الحصول على خمسة أو ستة كتب بثمن كتاب واحد في المعرض.
ما يحدث اليوم في معارض الكتب من ارتفاع فاحش في الأسعار هو في حقيقته عائق حقيقي أمام تنمية الوعي الثقافي وتشجيع القراءة. والمشكلة لا تتعلق بجودة الكتب أو طباعتها كما يُروّج البعض، بل تتعلق بمفهوم "تحويل الثقافة إلى تجارة"، وهذه كارثة حقيقية حين يكون السوق هو من يتحكم في ما يجب أن نقرأه، وفيمن يحق له أن يقرأ أصلًا. المثقف الحقيقي – وغالبًا ما يكون موظفًا بسيطًا، أو طالبًا، أو معلمًا، أو هاويًا للقراءة – لا يملك المال الكافي لاقتناء ما يرغب به من كتب، حتى لو كانت ضرورية لتخصصه أو لنموه الفكري. في المقابل، التاجر الذي يملك المال لا يقرأ، وغالبًا ما لا يهتم بالكتب أساسًا، لكنه يساهم - دون قصد أحيانًا - في تعميق الفجوة، لأنه حين يدخل السوق فإنه يرفع السقف، ويساهم في صناعة "معرض طبقي"، لا يخدم الثقافة قدر ما يخدم المظاهر.
حين ننظر إلى الصورة الأشمل، سنكتشف أن المسألة أكبر من مجرد "سعر كتاب"، إنها تتعلق بموقف الدولة من الثقافة، وبآليات دعمها لهذا القطاع الحيوي. فهل يعقل أن تكون أجور الأكشاك في معارض الكتب باهظة إلى هذا الحد؟ وهل من المنطق أن يتحمّل الناشر وحده تكاليف النقل، والإقامة، والضرائب، ورسوم الاشتراك، ثم نطالبه بتقديم الكتاب بسعر مناسب؟ وهل الدولة غائبة تمامًا عن هذا المشهد؟ أين الدعم الثقافي؟ أين التخفيضات؟ أين الرسوم الرمزية؟ إذا كانت الغاية من المعرض نشر الثقافة، فيفترض أن تتحمّل الحكومة جزءًا من التكلفة، وأن تُمنح دور النشر تسهيلات حقيقية، لا مجرد شعارات للاستهلاك الإعلامي. أما إذا كانت الغاية تحقيق أرباح، فعليهم ألا يزيفوا الواقع، ولا يقدّموا هذه الفعالية على أنها خدمة معرفية، أو مشروع وطني.
المؤلم في الأمر أن كثيرًا من الجهات تتعامل مع معرض الكتاب وكأنه "كرنفال"، ووسيلة للترويج والتجمّل، لا باعتباره ركيزة مهمة لبناء الإنسان. تُنفق الأموال على الديكور، وعلى الفعاليات الجانبية، وتُمنح المنصات للمشاهير والسطحيين، في حين يُترك القارئ الحقيقي يتنقل بين الأجنحة باحثًا عن كتاب بثمن معقول، أو يتأمل أغلفة الكتب دون أن يستطيع شراءها. هل يُعقل أن يُمنح معرض الكتاب هالة إعلامية كبيرة، ثم يُغلق بابه فعليًا في وجه من كُرِّس من أجله؟ أي عدالة في أن يُصبح الكتاب، وهو رمز الوعي والمعرفة، عنصرًا من عناصر التفاوت الطبقي في المجتمع؟.
حين يُقال إن الناس لا تقرأ، علينا أن نتوقف لحظة ونسأل: هل الكتاب متاح أصلًا؟ هل هو في متناول اليد؟ هل يستطيع الشاب الذي يعيش على راتب شهري لا يكفي لأسبوع أن يخصص جزءًا منه للكتب؟ هل الأسرة المتوسطة، التي تكاد تغرق في التزامات الحياة، تستطيع أن تشتري لأطفالها كتبًا تعليمية أو قصصًا بأسعار تتجاوز عشرات الآلاف؟ الحقيقة أن الواقع يجيب، وأن السبب ليس انصراف الناس عن القراءة، بل عجزهم عن مجاراة أسعار الكتب التي فُرضت عليهم بقوة السوق، لا بقوة العقل.
لا أحد يطلب من الناشرين أن يعملوا بخسارة، ولا يُمكن إنكار أن هناك كُلفًا تشغيلية عالية، ولكن ما يُطلب هو تدخل الدولة، تدخل حقيقي لا صوري، يتمثل بدعم الكتاب من لحظة طباعته، إلى عرضه في المعرض، إلى وصوله للقارئ. وهذا الدعم لا يجب أن يكون منّة أو قرارًا مؤقتًا، بل سياسة ثابتة تُعامل الكتاب على أنه منتج استراتيجي، لا يقل أهمية عن الغذاء أو الدواء. كما يفترض أن يكون هناك تسعيرة محددة للكتب، تراعي متوسط دخل المواطن، وتشجّع على تداولها بين مختلف شرائح المجتمع.
الكتاب لا يجب أن يكون حكرًا على طبقة معينة، ولا أن يتحوّل إلى سلعة نخبوية تُعرض في معارض أشبه بالأسواق الراقية. بل يجب أن يعود إلى مكانته الطبيعية: وسيلة للتنوير، وجسرًا بين الإنسان والعالم. ولا يمكن أن يتحقق هذا ما دامت الأسعار تقف حائلًا بين القارئ والكتاب. وإذا كانت الدولة لا تريد أن تدعم الثقافة فعليها على الأقل ألّا تضع العقبات في طريقها، وألّا تترك المعارض فريسة للجشع، وألّا تُسهم في تحويل المثقف إلى متسول على أبواب الأكشاك.
ختامًا اقول، على الجميع أن يدرك أن الثقافة لا تُبنى بالشعارات، ولا تُرعى بالمهرجانات، بل تُبنى حين يُمنح القارئ فرصة حقيقية للقراءة، وتُرعى حين يُحترم عقله وجيبه معًا. الكتاب يجب أن يكون متاحًا، وقريبًا، وممكنًا، لا رفاهية محصورة بمن يملكون المال فقط. الثقافة حق، وليست سلعة. وهذه حقيقة، مهما حاول البعض التلاعب بها.

ارسال التعليق