المُعلِم محمد علي بحر العلوم.. صورة العلم والاخلاق

د. مجاهد أبوالهيل

تعرفتُ على سماحة العلامة الراحل السيد محمد علي بحر العلوم في المنفى في تسعينيات القرن الماضي عندما كنتُ طالبا للعلوم الدينية في حوزة الامام الهادي "ع" بعد هجرتنا الجبرية الى مدينة قم وانخراطنا في دراسة العلوم الدينية في مدارسها، في تلك الفترة لم نكُ نعرف أبناء البيوتات الدينية المعروفة، آل بحر العلوم وآل الحكيم وآل الجواهري وغيرهم من ورثة المجد الأسري والعلمي، لكن مدينة قم وفرّت لنا نحن ابناء الجنوب فرصة كبيرة للتعرف على مختلف طبقات المجتمع المهاجر من علماء وسياسيين ومؤرخين وأسماء معروفة لم نلتقِ بها من قبل، ورغم أن هذه المعرفة لم تخلو من شعور طبقي بيننا وبينهم وهذا ما جعلنا نبتعد عن إقامة علاقات اجتماعية مع الكثير منهم.

 

د. مجاهد أبوالهيل/ باحث وشاعر عراقي

تعرفتُ على سماحة العلامة الراحل السيد محمد علي بحر العلوم في المنفى في تسعينيات القرن الماضي عندما كنتُ طالبا للعلوم الدينية في حوزة الامام الهادي "ع" بعد هجرتنا الجبرية الى مدينة قم وانخراطنا في دراسة العلوم الدينية في مدارسها، في تلك الفترة لم نكُ نعرف أبناء البيوتات الدينية المعروفة، آل بحر العلوم وآل الحكيم وآل الجواهري وغيرهم من ورثة المجد الأسري والعلمي، لكن مدينة قم وفرّت لنا نحن ابناء الجنوب فرصة كبيرة للتعرف على مختلف طبقات المجتمع المهاجر من علماء وسياسيين ومؤرخين وأسماء معروفة لم نلتقِ بها من قبل، ورغم أن هذه المعرفة لم تخلو من شعور طبقي بيننا وبينهم وهذا ما جعلنا نبتعد عن إقامة علاقات اجتماعية مع الكثير منهم. 
وكان من بين هؤلاء، سماحة السيد الراحل محمد علي بحر العلوم الذي بدّد في داخلي الحذر من التقرب من أبناء المراجع وأحفادهم لما يحمله من سمو في الأخلاق وعلو في التواضع، بالاضافة إلى الجاذبية العالية التي تبعثها أبتسامته غير المفتعلة حينما يتحدث معك. 
وفرّت لي دراستي الحوزوية وتميزي فيها من خلال العلامات العالية التي أحصل عليها في امتحانات درس الاصول الذي كان أستاذنا فيه هو سيدنا الراحل، فرصة الاقتراب منه أكثر والتعرف على الشخصية الحقيقية لسماحته، كما لعب الشعر دوراً كبيراً في تقربي اليه او تقربه مني بشكل يشي بالحميمية، فآل بحر العلوم الكرام ورثة علم وشعر في آن واحد مما أضفى على شخصياتهم مسحة محبة وتواضع ميزتهم عن باقي البيوتات العلمية النجفية. 
كان سماحة السيد محمد علي بحر العلوم يبدأ محاضرته علينا بفرض يومي، وهو أن يفتتح أحدُنا المحاضرة بقراءة آيات من القرآن الكريم ليزرع فينا الجرأة التي كنا نفتقدها بسبب الخجل الشديد الذي ورثناه من القرى والأرياف التي وزعتنا رغم انوفنا على منافٍ لم نكُ نفكر يوما ما بزيارتها ولو في احلامنا. 
كما خصني أستاذنا الراحل بجرعة كبيرة من تلك الجرأة بعد أن كلفني بالمشاركة في الحفل الشعري الذي أقامته مدرسة الامام الهادي "ع" بمناسبة عيد الغدير، بعد أن تسنم إدارتها خلفاً لسماحة السيد عماد كلانتر، وكان ذلك تحدٍ كبير بالنسبة لي اذ كيف لي أن أقف أمام أساتذتي وزملائي وضيوف المهرجان لإقرأ قصيدة لم يتم اختبارها بالنشر أو القراءة على الإطلاق، قال لي سماحة السيد الراحل بحر العلوم بعد أن طلب مني أن أشارك بالحفل:

- " يالله راوينا شعرك وهذا يومك"، 
- أجبته والارتباك أخذ مني مأخذه؛ نعم سيدنا أنا حاضر ولكن سأكلف عريف الحفل بقراءة القصيدة التي سأكتبها بالمناسبة، 
- فأجابني بتحدٍ ولماذا لا تقرأها أنت ؟ 
- قلت له : لم أقرأ على المنصة من قبل لذلك أخشى أن أرتبك ..
عندما رأى سماحته، الارتباك والخوف من المنصة أخذا مني مأخذهما يبدو أنه رأف بحالي وتركني دون أن يخفي علامات التحدي من نظراته. 
كتبتُ القصيدة وسلمتها لعريف الحفل صباح يوم المناسبة وكنت أنظر لسماحة السيد الاستاذ بخجل وزهو واضحين، الخجل لأنني خيبتُ أمله والزهو لأنني كتبتُ القصيدة وكانت محط إعجاب من الجميع، وقبل أن يتلو عريف الحفل اسم شاعر القصيدة التي سيقرأها نيابة عنه، تماسكتُ وانتابتني نوبةُ جرأة تسربت لي من إصرار سماحة السيد بحر العلوم على منحي فرصة أن أكون فارساً ونفضتُ عن قلبي الخوف وقمتُ متوجهاً لسماحة السيد لأستأذنه بقراءة قصيدتي بنفسي، فرح بذلك ومنحني قوة وإصرارا لازماني لغاية اليوم. 
رحل السيد محمد علي بحر العلوم مبكراً جداً دون أن يكمل مشواره العلمي، فهو من الاسماء المميزة في الحوزة العلمية الذين تنعقد عليهم الآمال في مستقبل مشرق لمرجعية علمية تمزج بين العلم والاخلاق، رحل بعد أن ورث من أبيه الراحل السيد محمد بحر العلوم كل شيء، إلا السياسة التي برع بها السيد الأب كوريث ذكي لمدرسة الشيخ النائيني ودولته العادلة. 
فقد ورّث السيد محمد بحر العلوم لإسرته العديد من الصفات المميزة كالعلم والشعر واللياقة الاجتماعية ومحبة الناس وغيز ذلك من الصفات. 
العزاء لنا نحن الذين تعلمنا منه كيف نقف بثقة وعزيمة، ولأهله الذين فقدوا قمراً يضيء لهم عتمة الدرب الطويل بحكمته وعلمه وعمامته الناصعة رغم سوادها، والعزاء لأخي الكبير الدكتور إبراهيم بحر العلوم وكل الاسرة الكريمة من السادة آل بحر العلوم الذين سيسكبون بحراً من الدموع على رحيل فقيدهم الحجة السيد محمد علي بحر العلوم قدس الله روحه الطاهرة.
 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق