مخطوطة فيصل الثالث: المقاومة بين التاريخ والمتخيل السردي
حسن الكعبي
حسن الكعبي / ناقد عراقي
رواية محمد غازي الأخرس مخطوطة فيصل الثالث: ملك الكوابيس السعيدة (2024)، تفتح أفقًا سرديًا تتقاطع فيه الذاكرة التاريخية مع الفانتازيا والغموض الأسطوري. وتمتد أحداث الرواية من أوائل القرن العشرين حتى انقلاب 14 تموز 1958، متخذة من الراوي العليم والأسلوب الحكواتي التقليدي مثابة لاستحضار تحولات العراق السياسية والاجتماعية.
وفي قلب هذا السرد، تحضر شخصية هوشله الأسطورية، نصف إنسان ونصف حصان، بقدرات خارقة، لتصبح محورًا يربط بين التغيرات الكبرى في الحكم العثماني، والاحتلال البريطاني، وتأسيس الملكية، ونهاية هذا النظام، مع الحفاظ على بعد أسطوري يوسع تجربة القراءة إلى ما هو أبعد من الوقائع التاريخية.
تتخلل الرواية مقاطع غير مرقمة تحت عنوان صندوق الأشباح، هذه الصناديق توظف الخيال والفلكلور لتخلق تاريخًا مغايرًا، مليئًا بالمسارات والتحولات التي لم تحضر ضمن سجلات السرد التاريخي الرسمي.
ومن خلال مشهد وفاة هوشله ورؤياه الأخيرة، تفتح الرواية المجال لتأويلات متعددة، نتاج المزج بين الواقع والتخييل، وبتداخلها مع التاريخي ومتضمناتها للأنساق الثقافية تصبح الرواية نصًا متشابكًا يحقق رؤية جديدة في الرواية العراقية الحديثة.
من خلال الشخصية الرئيسية هوش، التي يُعاد تشكيلها بأسماء وملامح غرائبية، ينفذ الروائي إلى الثقافي ليتيح تأويل هذه الشخصية بوصفها تمثيلًا للذات المستعمَرة في المخيال الغربي. فكما يرى إدوارد سعيد أن "الاستعمار لا يقتصر على القوة العسكرية والسيطرة السياسية، بل يمتد ليصبح خطابًا يشكّل صورة الآخر في المخيلة الغربية"، وهذه الفكرة تجد تمثيلاتها ضمن شخصية هوش المسخ.
غير أن الرواية تنقلب على هذا التمثيل، فالمسخ الذي فرضته ظروف الغزو يتحول إلى راوٍ للتاريخ، شاهدًا على زيف السرد الرسمي وناقلًا لذاكرة مقاومة تنبثق من الهامش الاجتماعي.
تستثمر الرواية الخيال للكشف عن الاستعمار، ولتخيّل تاريخ مغاير للعراق بصورة ملكية مختلفة، وولي عهد يخرج من هامش الواقع، وغير متصل بالبلاط السياسي – أي إنها – تخترع تاريخها الخاص. وبذلك يتحول التخييل إلى أداة للمقاومة، فكما يرى سعيد أن "الرواية قد تكون مرآة للتجربة الإمبريالية مكرّسة لها، لكنها أيضًا تكون كاشفة لتناقضاتها".
إن مخطوطة فيصل الثالث تنحاز إلى التوصيف الأخير في هذه المعادلة الطباقية، فهي توظف اللعب السردي لتقويض الحتميات التي فرضتها السلطة الاستعمارية، وانطلاقًا من هذا التقويض فإنها تفتح أفقًا يسمح بالمغايرة وإنتاج سردية مضادة لخطاب القوة.
إن شخصية هوش، في سياقها الغرائبي كنصف حيوان ونصف إنسان وكشخصية عاجزة عن تمثيل نفسها وما ينسج حولها من تحبيك أسطوري يتعلق بقدرتها على التحوّل وفهم لغات متعددة، تجسد الإشكالية التي تناولها سعيد حول تمثيل "الشرقي" في المخيال الغربي ككائن غرائبي، سحري، محكوم بالخرافة.
غير أن الروائي حوّل هذه الغرابة إلى طاقة مقاومة أتاحت للمسخ أن يصبح شاهدًا على العنف التاريخي، ومشاركًا في صناعة تاريخه الخاص، وبذلك فإن الغرائبية لم توظف في الرواية كاعتباط سردي أو مقاربة عبثية، بل هي إستراتيجية لتأطير الرواية ضمن مساحة المقاومة الثقافية، وككناية لصوت المهمشين وتمثيلهم، أي بمواجهة التمثيل الاستعماري بالمتخيل السردي.
تتجاوز الرواية نقد الاحتلال والاستعمار الثقافي لتطال خطاب السلطة في مساحتها المحلية، مشيرة إلى أن تنصيب الملوك كان امتدادًا لإرادة المستعمر، وأن خطاب الفضائل ومراكماته لم يكن إلا غطاءً لشرعية مفروضة بالقوة لتأسيس سماكات بلاغية تشكّل حاجزًا استعلائيًا في نسيج بنية السلطة. بمعنى أن الروائي يتخطى حدود مساءلة الهيمنة ببعدها الاستعماري إلى مساءلة الهيمنة ببعدها الوطني، أي في سياق ما يدعو إليه الطيب بوعزة في ضرورة مساءلة التوابع. وحسب سعيد، إن الثقافة في لحظاتها الوطنية قد تتحول إلى أداة للهيمنة إذا لم تُسائل جذورها.
وفي سياق هذه المساءلة يقترح الروائي شخصية فيصل الثالث المتخيَّلة، ليطرح تصورًا لملكية بديلة تنبثق من الهامش، وتمثل المهمّشين في إطار ضرورة أن يتكلم التابع حسب توصيف – غاياتري سبيفاك – فهذه الملكية المتخيلة كما هي فضاء لتمثيل الهامش فإنها في الوقت ذاته تمثل إقصاءً يُمارس حجبه للنخب المتحالفة مع الخارج.
فالرواية انطلاقًا من هذا تمثل فعل مقاومة ضد النسيان نفسه. فالتاريخ الذي نعرفه ليس إلا سردية انتقائية، وثمة تاريخ آخر مدفون تحت ركام السلطة. ومخطوطة فيصل الثالث تمثل هذا النوع من "المقاومة عبر السرد"، حيث يُكتب التاريخ من منظور الضحية، وتستعيد المخيلة دورها السياسي، لتصبح الرواية ساحة مساءلة للماضي والحاضر معًا.
تنتقل الأحداث بين البصرة والكوت والعمارة وكركوك وبغداد، عبر شخصيات رئيسة وثانوية، ونصوص متعددة (إحدى عشرة مخطوطة). هذا التراكم يجعل الرواية غنية ومعقدة، وتتطلب من القارئ مشاركة فعالة في نسيجها السردي. إلا أن الأخرس عبر استعماله لتقنية الميتافكشن التي سمحت له بالحضور داخل المتن السردي, يوضح حرية التخييل في بداية الرواية بقوله: "على الرغم من أن كثيرًا من الشخصيات حقيقية، وبعض الأحداث جزء من التاريخ، إلا أن أحداثًا أخرى متضافرة معها هي من بنات الخيال". هذا المزيج بين الحقيقة والخيال يثري النص ويضع القارئ أمام تجربة نقدية وفنية في آن واحد.
ما يميز مخطوطة فيصل الثالث أنها لا تكتفي بتمثيل الماضي، بل تحوّله إلى ساحة للنضال الرمزي والثقافي. فالرواية تعيد الاعتبار للمهمشين، وتطرح إمكانيات لصناعة تواريخ جديدة، مستندة إلى استراتيجية تخييلية هي استعادة لصوت الضحية.
ومن هذا المنطلق فالرواية تمثل احتجاجًا سرديًا ضد هيمنة القوة التي فرضها الاستعمار بتجلياته. ومن ثَمّ تصبح الرواية نصًا نقديًا مقاومًا، يترجم دعوة سعيد لقراءة النصوص في ضوء علاقاتها بالقوة، والبحث عن المسكوت عنه في الهوامش حيث يقيم التاريخ الحقيقي للشعوب.

ارسال التعليق