إضاءة العقل: دعوة لإحياء الفلسفة والعلوم الإنسانية في إعلامنا

د. آمال بوحرب

إلى الإخوة المسؤولين المحترمين في المجلات والصحف الثقافية والإعلامية، إننا نعيش في زمن تتقاذفه الاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث تزداد الحاجة إلى بوصلة فكرية تعيد للعقل مكانته كأداة لفهم الواقع وتشكيل المستقبل. لذلك أوجه إليكم دعوة ملحة لإيلاء الفلسفة والعلوم الإنسانية مثل التاريخ وعلم الاجتماع ما تستحقه من اهتمام، بنفس القدر الذي تولونه للقصة والقصيدة.

د. آمال بوحرب  /  باحثة تونسية

 

إلى الإخوة المسؤولين المحترمين في المجلات والصحف الثقافية والإعلامية،
إننا نعيش في زمن تتقاذفه الاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث تزداد الحاجة إلى بوصلة فكرية تعيد للعقل مكانته كأداة لفهم الواقع وتشكيل المستقبل. لذلك أوجه إليكم دعوة ملحة لإيلاء الفلسفة والعلوم الإنسانية مثل التاريخ وعلم الاجتماع ما تستحقه من اهتمام، بنفس القدر الذي تولونه للقصة والقصيدة.
فالأدب وحده لا يكتمل إلا بإسناده إلى الفكر، والخيال لا يثمر ما لم يعانق أسئلة الفلسفة التي تكشف عن طبيعة الإنسان والمجتمع، أو دروس التاريخ التي تعلمنا كيف نتجنب أخطاء الماضي، أو تحليلات علم الاجتماع التي تفسر الديناميكيات الاجتماعية المعاصرة. بالتالي يصبح الاهتمام بالعلوم الإنسانية ضرورة ملحة لتنوير عقولنا في واقع يعاني من السطحية الرقمية والاستهلاك السريع للمعلومات، وهذا التنوير هو وفاء للعقل وللإنسانية جمعاء.
التاريخ يشهد على قوة الفلسفة والعلوم الإنسانية في إحداث تغيير جذري. فعلى سبيل المثال، في عصر التنوير الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ساهم مفكرون مثل جون لوك، وديفيد هيوم، وإيمانويل كانط في ترسيخ أفكار الحرية والحقوق الإنسانية والحكم الديمقراطي، مما أدى إلى ثورات مثل الثورة الفرنسية عام 1789 التي أطاحت بالنظام الملكي المطلق وبنت أسس الحريات الحديثة، كما ورد في عمل روسو العقد الاجتماعي الذي ألهم إعلان حقوق الإنسان والمواطن.
وفي السياق العربي، خلال عصر النهضة في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان طه حسين وقاسم أمين ومحمد عبده روادًا في استخدام الفلسفة والعلوم الإنسانية للتنوير. ففي كتابه في الشعر الجاهلي دافع طه حسين عن حرية الفكر والعلم، مما ساهم في إصلاح التعليم وحقوق المرأة في مصر والعالم العربي. كما أن قاسم أمين في تحرير المرأة دعا إلى المساواة مستندًا إلى تحليل اجتماعي عميق أحدث تحولات اجتماعية كبرى.
علاوة على ذلك، ساهم ابن رشد في العصور الوسطى بتفسيراته لأرسطو في نقل المعرفة اليونانية إلى أوروبا، مما مهد للنهضة الأوروبية، كما يظهر في عمله فصل المقال الذي دعا إلى التوفيق بين العقل والدين، مما يبرز الوفاء للفكر كقوة محركة للتقدم.
ومن جهة أخرى، يتجلى الوفاء كقيمة مركزية في الفلسفة والعلوم الإنسانية، إذ يمثل التزام المفكر بقيمه وأفكاره رغم الصعوبات. ففي حياة ديفيد هيوم، الذي واجه الرفض من الأوساط الأكاديمية بسبب شكه الفلسفي، نجد وفاءً للحقيقة العقلية، كما في بحث في الطبيعة البشرية الذي أكد أن الأخلاق تنبع من العواطف لا العقل المجرد.
وهذا الوفاء للفكرة يتطلب تثبتًا وتحكمًا عاطفيًا أمام الانفعالات، مما قد يجعل البعض يرون المفكرين شبه ملائكة لخروجهم عن المألوف. وفي السياق العربي، نجد طه حسين في الأيام يواجه التحديات الاجتماعية ليظل وفيًا لقيم الحرية والمعرفة، مما يؤكد أن الصعوبات التي يمر بها المفكر هي مرحلة من تجربة الوفاء. وهذا يعزز دعوتنا لإحياء الفلسفة في صفحاتكم، لأنها تمنحنا أدوات فهم هذه التجارب.
لذلك، فإن الاهتمام بالعلوم الإنسانية ليس ترفًا بل شرط ضروري لبناء مجتمع متماسك يعرف كيف يوازن بين جمال الكلمة وعمق الفكرة. ففي زمن تسود فيه السطحية الرقمية والشعبوية، يجب أن تكون صفحاتكم منابر للتنوير تعيد للفكر مكانته وتقاوم الظلامية.
بالتالي، أدعوكم أيها الإخوة المسؤولون المحترمون مرة أخرى إلى جعل مجلاتكم وصحفكم أدوات للتقدم، مستلهمين دروس التاريخ لنبني مستقبلًا ينير عقولنا ويحفظ وفاءنا للإنسانية.

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق