مولد الدولة الحضارية

حسن الكعبي

مولد النبي محمد (ص) يشكّل حدثًا مفصليًا في التاريخ البشري، إذ ارتبط ببعثة سماوية أحدثت نقلة نوعية في الفكر الديني واللغوي والاجتماعي للأمة العربية. فقد استطاع النبي أن يحوّل العربية من لهجات متفرقة مهددة بالاندثار إلى لغة موحدة مقدّسة بفضل نزول القرآن الكريم، كما نجح في تأسيس مشروع حضاري شامل أنقذ العرب من الوثنية والظلم الاجتماعي، وأطلق مسيرة إنسانية جديدة تقوم على التوحيد والعدالة , في سياق دور النبي محمد في إصلاح العربية وإنقاذها من التشرذم، وارتبابط ذلك بمشروعه الإصلاحي الديني والاجتماعي.

 

حسن الكعبي / ناقد وشاعر عراقي

مولد النبي محمد (ص) يشكّل حدثًا مفصليًا في التاريخ البشري، إذ ارتبط ببعثة سماوية أحدثت نقلة نوعية في الفكر الديني واللغوي والاجتماعي للأمة العربية. فقد استطاع النبي أن يحوّل العربية من لهجات متفرقة مهددة بالاندثار إلى لغة موحدة مقدّسة بفضل نزول القرآن الكريم، كما نجح في تأسيس مشروع حضاري شامل أنقذ العرب من الوثنية والظلم الاجتماعي، وأطلق مسيرة إنسانية جديدة تقوم على التوحيد والعدالة , في سياق دور النبي محمد في إصلاح العربية وإنقاذها من التشرذم، وارتبابط ذلك بمشروعه الإصلاحي الديني والاجتماعي.

فقد كانت اللغة العربية قبل الإسلام موزعة على لهجات القبائل، بحيث يصعب وجود معيار موحد يجمعها. وقد مثّل الشعر الجاهلي ذروة التعبير الأدبي، لكنه ظل حبيس العصبية القبلية ومحدودية الانتشار، مما جعل العربية عرضة للتشتت والانقسام.
وقد جاء القرآن الكريم بلغة عربية فصيحة معجزة في بيانها، قال تعالى:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2].
وبهذا النص المقدّس أصبحت العربية لغة جامعة، توحّد بين القبائل وتنهض بقدراتها التعبيرية لتصبح وعاءً للعلم والدين والحضارة. واتساقا مع المدلول القرآني ، يشير الحديث الشريف: "إنما بعثت بلسان عربي مبين"، وإلى وعي النبي بقيمة العربية كأداة للخطاب الرسالي.
إن النبي محمد أنقذ العربية بالوحي، فانتقلت من كونها وسيلة للتفاخر القبلي إلى لغة دين عالمي، وامتدت لتكون وعاءً حضاريًا لعلوم التفسير والفقه والفلسفة، فضلًا عن كونها جسرًا للتفاعل الثقافي مع الأمم الأخرى التي دخلت الإسلام.
ولم يقتصر دوره على إنقاذ العربية وإكسابها بعدها الكوني بل انه نفذ إلى المجتمع من خلال هذا التأسيس إلى بناء مجتمع حضاري فقد كان المجتمع الجاهلي قائمًا على عبادة الأصنام، وتكريس التفاوت الطبقي، وهيمنة العصبية. فجاء النبي برسالة التوحيد، داعيًا الناس إلى عبادة الله وحده:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158].
وبهذا الإعلان العالمي، حرّر الإسلام الإنسان من عبودية الأصنام والبشر، وجعل التوحيد أساسًا للحضارة الجديدة التي أرسى فيها النبي ﷺ مبادئ العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية،وقيم التسامح والمساواة، وذلك ما أشار إليه في خطبة الوداع:
"يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى" فقد مثّل هذا الخطاب ثورة فكرية واجتماعية، نقلت المجتمع من هيمنة العصبية القبلية إلى وحدة إنسانية كونية تقوم على معيار التقوى.

من هذه المنطلقات يمكن معاينة  الدين الإسلامي كمشروع حضاري بمعنى إن الإسلام لم يكن مجرد دعوة روحية، بل كان مشروعًا حضاريًا متكاملًا، يستهدف إصلاح الفرد والمجتمع على السواء. من خلاله وحّدت الأمة العربية تحت راية التوحيد، وأعاد صياغة علاقتها باللغة والدين والمجتمع، لتصبح أمةً شاهدة على الناس، كما في قوله تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143].


يتضح من خلال ما سبق أنّ النبي محمد ﷺ كان حامل مشروع إصلاحي شامل، أنقذ العربية من التشظي، وجعلها لغةً خالدة بفضل نزول القرآن الكريم، كما أنقذ المجتمع من ظلمات الوثنية والظلم الاجتماعي عبر مشروع حضاري عالمي قائم على التوحيد والعدل. وبذلك فإن الرسالة المحمدية لم تقتصر على الجانب الديني فحسب، بل امتدت إلى إعادة صياغة هوية الأمة في بعدها اللغوي والثقافي والاجتماعي.
 

مقالات ذات صلة

ارسال التعليق